[ [ ترميم البشر لا الأثر - مدونة صابر أحمد المنياوى [
الثلاثاء، 17 يناير 2017

ترميم البشر لا الأثر


الترميم كثيرما نسمع تلك كلمة بعد أنفجار أو عمل أرهابى أوحريق  يتعرض لمنشأت عامة أو أثرية تاريخية لها قيمة تاريخية فى حياة الشعوب. وهذه القيمة جعلتها  هي الأخرى، بمنظمة دولية تهتم بتلك الأثار. وعلى ذلك شاهدنا تصنيف العديد من الأمكنة كتراث عالمي أو لا تصنّف. وكذلك تسارع الدول لتصنيف  أمكنتها تراثا عالميا ذات الطابع التاريخى ، لما للأمر من أثر سياحي واقتصادي يضر على الدول التي كسبت تصنيفا رفيعا لبعض من عمارتها القديمة. من هنا، فإن «الترميم» هو كلمة السر والمفتاح التي تأتى بعد كل عنف أدّى إلى إلحاق ضرر بتلك المنشأت، وبتلك الحجارةالمرصوصة من ألاف السنين التى بناها من هم فى الماضى ، ليأتى من فى الحاضرويقيمون لها منظمات ومحميات وملايين الدولارات لأنشاء المتاحف .

ولكن على النقيد تماما الأنسان الذى تعرض لدمار البدنى والنفسى تكتفى بعض الدول منها مصر بأنشاء الحملات والحسابات البنكية لهذا ،أما الموطن العادى فيكفى العلاج والتعويض المادى الزهيد يتم تناسي، أو تجاهل، البشر أنفسهم، الذين هم القيمة أصحاب الضرر الحسى والبدنى والنفسى ، ولهم الحق الأصلي بـ«الترميم» قبل ترميم الحجر.

فبعد كل حرب وتقاتل، يكون اهتمام تلك المؤسسات المصنِّفة للأمكنة تراثا عالميا إنسانيا، بالحجر وما شابه من تغير أو تحطم أو إزالة، وتعلن أسفها على تلك الكثبان المعمارية، في مقابل تجاهل ما حصل للبشر أنفسهم من تشوّه داخلي وأذى في الصميم، لما رأوه أو لاقوه من عنف الحرب ووحشيتها. هل لأن الإنسان، في الأصل، أكثر مرونة، ويمتلك المقدرة على ترميم ما تهدّم في روحه؟!
لا يخبرنا الشعر عن تشوّهات الحرب، بقدر ما يركّز على التهليل لها بصفتها نشاطا معنويا وماديا فائضا. غير الرواية التي تختبئ وراء اللاشعور الفردي للشخصية، فتنقل الخوف والتحطم الذي يتكدس في وعيها طبقاتٍ من اليأس وتغيّر الهوية. تستطيع الرواية أن تتغلغل في تلك الشقوق التي أحدثها العنف، وكذلك في السيناريو السينمائي، الذي كثيرا ما حفلت به السينما الغربية والأميركية، في نقلها للحرب والعنف. ونادرا ما يتم التركيز على الأمكنة بصفتها حجرا، بل الأمكنة بصفتها تعلّقا وحنينا لعالم أخفته وحشية الحروب.

سوريا والعراق، كانا المكانين الأكثر بروزا في أدبيات الصراخ المحذرة من تهدم الأبنية، فيهما، بصفتها تراثا إنسانيا. ومنه الكلام عن اللقى الأثرية وباقي تفاصيل المتاحف، ثم إطلاق الزعيق على هذا «التراث الإنساني»، في مقابل كتلٍ بشرية تتعرض للإبادة والقتل والتشويه لم تتحصل إلا على إدانات ومؤتمرات لا قيمة لها في المحصلة. حزن أم على طفلها، أو العكس، أليس أكثر قيمة من كل «التراث الإنساني» الحجري الذي توسّعت لأجله حناجر الحريصين على أبنية هي في الأصل لا قيمة لها بمعزل عن البشر الذين بنوها أو سكنوها أو حرسوها أو اعتنوا بها؟!
«الترميم» الذي يطال الحجر، لا يطال البشر، بالسهولة ذاتها. فإبدال حجر بآخر، مسألة تقنية في المقام الأول. إنما الاستبدال، هذا، لا يعيد رميما، ولا يبني روحا، ولا يشفي جرحا. وتذهب صرخات الثكالى ودموع الأطفال وكبرياء الرجال، في ذلك الوادي السحيق الذي اسمه النسيان. بينما تتقاطر الأحجار لبناء الأحجار، أو تزيينها، أو «ترميمها». إلاّ حرقة الروح على من ضاع، لا شفاء لها ولا بديل ولا استبدال. كان ديستويفسكي على حق، عندما نقل عالم الأشخاص من داخل، بضعفهم وقوتهم، بجمالهم وقبحهم، بعبقريتهم وغبائهم، دون أن يعطي لجغرافيا الحجر أي مساحة تذكر في سرده الإنساني، الذي هو بحق، التراث الإنساني الحقيقي. هذا على الرغم من جمال العمارة الروسية التي هي مزيج من حضارات وأديان متعددة.

كان نيكوس كازانتزاكس، مؤلف «المسيح يصلب من جديد»، مختلفا في نقله للمكان الخارجي، بسبب أنه ينتمي إلى حضارة عريقة اشتهرت فضلا عن الفلسفة والمنطق، بالعمارة التاريخية اليونانية. فكان كازانتزاكس يوازن ما بين حزن الأرملة وجاذبيتها، والبيت الذي سيجلس فيه «مانولي» وتظهر على وجهه حبوب القلق والأسئلة الميتافيزيقة. إنما كان كازانتزاكس روحيا بالمحصلة، لكن مع حراسة مستمرة للمكان والدفاع عنه، من هنا فقد أوصى في مذكراته أن يحمل البندقية على كتفه، حتى بعد انتقاله إلى العالم الآخر.

إلا «الترميم» وحماية «التراث الإنساني»، فلا حدّ للظلم المحمول فيهما، بصفتهما حراسةً للمكان الخارجي، مع إهمال غير مفهوم للبنية الروحية الثقافية التي تنهار بفعل قذيفة، قبل أن تفعل الأخيرة فعلها بالحجر. التراث الإنساني جزءٌ من الروح البشرية والعكس غير صحيح. وبعض الأبنية والأسواق لا يمكن أن تنوب عن بعض البشر. صراخٌ على سوق تجارية، هو في جوهره، طرد للروح ساكنة المكان، تلك التي زرع فيها العنف تشوها لا يتم إصلاحه كما يتم إصلاح جدار مشروخ أو نافذة محطمة. مكانٌ هو داخل الصورة، أمّا قاطنوه، فهم خارج الصورة. هذا الخلل يؤدي إلى صراخ على سوق تجارية، بينما لا حديث عن التجار أنفسهم.
صابر احمد المنياوى

0 التعليقات :

إرسال تعليق